ذكرى المولد النبوي بين السنة الطاهرة والبدعة الحسنة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي مَنَّ علينا بنعمة الإسلام وبعث فينا خير الأنام ،نبي الهدى ورسول الرحمة ،محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القريشي العدنان

،بعثه الله قائدا ومرشدا ،بشيرا ونذيرا ،وسراجا منيرا لهذا الإنسان.

نصفه الغرباء قبل المقربين والصحابة والتابعين والأحباء ،كما شهد لعظمته من لم يؤمن به من الأعداء ،واعترف برسالته العظيمة كبار المؤرخين والمفكرين المنصفين الأتقياء ،فقد قال في حقه المستشرق الفرنسي( إتيين دينيه) : إن دين محمد صلوات الله عليه دين الفطرة ولا يختلف بتنوع البشر ،فهو دين لكل عقل ولكل جنس ويصلح لكل زمان ومكان.وقال فيه المستشرق الأسباني( ريتين) أيضا : أن الإسلام دين مقدس يناسب كل قومية ولا يمكن أن يستغني عنه أي بشر وتعاليمه تتماشى مع أي حضارة انسانية وتتناسب مع كل العصور والأزمنة.

في ذكرى شهر ربيع الأول من كل عام نجدد انتماءنا إلى هدي وتعاليم أعظم نبي ورسول، أضاء سناء فجره من الأفق البعيد، ليحل هذه السنة على الأمة الإسلامية من جديد. في ذكرى ميلاد أمة عظيمة صنعت بأناملها صفحات التاريخ، وانبثقت من تحت أقدامها حضارة أبهرت العالم وغيرت مسار الحضارة الانسانية.

إنه يوم غال وثمين يخص الناس أجمعين، أعز وأفخر ذكرى بالمبشر النذير السيد ،القدوة والقائد والإمام الفذ .من تغرورق العيون بدموع الفرحة عند سماع ذكره، وتخشع الأفئدة لسيرته الزكية وسنته العطرة،ويسعد الورى بلقائه كما تطمع النفوس لشفاعته.

اتباعه فرع من الايمان ، وتصديقه طاعة ومحبة ونصرة وأمان،ورسالة وشريعة ودين تراحم ورحمة لكل إنسان،أرسله الله تبارك وتعالى لإنقاذ البشرية من الظلمات إلى النور، لضمان سعادة الدارين والمقام،وخاتمة كل الرسالات السماوية بشريعة الثبات والمرونة الأبدية،المواكبة لكل زمان ومكان تحت عنوان:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا }

في هذه الذكرى الجليلة التي تجدد الإيمان برب البرية، وتتعاظم بحب سيد الإنسانية، ازداد رسول العالمية، محرر الفكر الإنساني من غياهب الظلم والشرك، والجهل والعبودية، مقرب السماء من الأرض ومنقذ البشرية.

من أشرقت بوجوده نسائم الهدى وأنوار التآخي السامية، وأنارت في يومه قناديل التسامح والتسامي الروحية، واستنشقت من تعاليم نبوته العطرة، نفحات أرقى منظومة تشريعية و عبير أزكى توحيد إيمان وعطور ألوهية.

محمد يا أغلى اسم مبارك يطيب على طرف كل لسان، ويا أحلى صفاء لحن استأنس به العقل والفؤاد ، يا أعذب الأسماء طيبا وأحلاها جودا ، في السماء مصطفى شفيعا ومحمودا وفي الأرض أحمدا ومحمدا.

فحبك يا خير خلق الله في عروقنا يسري رحمة وسلاما كالنسيم العليل، على جداول قلوبنا الرقراقة بشلالات هواك وخليلنا، في أرواض مشاعرنا وسيول أرواحنا العذبة وأنهار وجداننا وسيول غديرنا.

سنتك الغراء حضارة تسامح وتعاطف وصفاء، سلم وسلام يجمع بين الأمم، تعاليم تعايش ،وئام وولاء ،ما صنعته يد بشر قط ولا أنجزته قاعات أرقى القمم.

أستغرب ممن يدعي حبك ويتغنى باسمك ويضيء هذه الليلة الغراء بالمصابيح الصناعية،ويتحفها بالأذكار والتسبيح والابتهالات الروحية . ومنهم من يتجاوز مقام التمجيد ويضعك موضع التقديس والألوهية، وأنت القائل:” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم” ،وقلت أيضا: “عليكم أنفسكم لا يستهوينكم الشيطان أنا محمد ابن عبد الله ،عبد الله ورسوله لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي” .

كما أضفت في حديثك الصريح بالسند الصحيح “إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار” وأكد ذلك أعز من قائل في محكم تنزيله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}

فهذه البدعة وإن كانت حسنة كما يزعم البعض، لم يأت جوازها عند السواد الأعظم لعلماء المسلمين،ولم يرد ذكرها لا في القرآن الكريم ولا في السنة الطاهرة ولا لدى إجماع سلف هذه الأمة. والأصل يجزم بالاعتصام بالكتاب والسنة ولا يصلح فيه الاحتكام إلى آراء كل عقل منفوخ أو من أقوال بعض الأئمة والشيوخ.

كما قال فيهم الشاعر مرة :

أقول قال الله قال رسوله *** فتجيب شيخي إنه قد قالَ

وأضاف في نفس السياق آخر: وكل خير في إتباع من سلف *** كل شـر فـي ابتداع من خلف

وجاء التأكيد على لسان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه إذ قال: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”

وفي خضم هذا يحكي التاريخ الإنساني أن الأمة الإسلامية لم تعرف في عهد القرون الثلاثة الأولى لا عيدا ولا احتفالا إلا بالعيدين المباركين: عيدالأضحى وعيد الفطر، فمحمد (ص) ليس بحاجة لا للدعاء ولا للتمجيد والثناء في ليلة واحدة عابرة ،فقد كرّمه ربه ومجّده من فوق سبع سموات .ومن الأفضل أن تكون هذه المناسبة مجرد محطة توقف للتمعن وأخذ العبر واتباع سنته والمشي على هديه، حتى ينتفع بها كل واحد منا في حياة الفناء، ويسعد بها في دار الخلد والبقاء.

علينا تجسيد فرحتنا بالرسول الأمجد في كل ساعة ويوم وليلة في جميع صلواتنا، وفي كل جمعة تمر من عمرنا، حتى لا تكون مجرد كلمات محفوظة عن ظهر قلب نتبارك بها، أو مجرد أنوار عشرات المصابيح الملونة التي تزينها وتزيد من بهائها في ليلة بهيجة. بل الأفضل أن تكون انطلاقة اقتداء بهديه والسير على نهجه ،بشمعة واحدة لا تنطفيء تضيء طريقنا على طول مسيرة العمر. فحب رسول الله لا يكون فقط باللسان، بل يسكن المشاعر والجوارح ويظهر جليا في تقوى الله وخلق الإنسان.

فحب ليلة عند العشاق على رأس كل سنة حتى وإن لم ننعته بالمراء، فقد يكون كذبا وبهتانا ونفاقا، وتحايل على من يدعي حبه ولا يرتفع إلى منزلة الإخلاص والوفاء. فبالأحرى إن كان هذا الحبيب هو حبيب الخالق وشفيع الخلائق، الذي يحتار في وصفه اللسان وتعجز عن تصويره أطراف البنان.فحتى وإن افترضنا أنه حب صادق فهل يكون كما قال عليه الصلاة والسلام:”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”

فما هي الفائدة من إحياء ليلة بالمدح والثناء والدعاء إذن؟ إن لم تكن متجسدة في كل دقيقة وثانية من حياة هذا المسلم ،وأن تكون كلها خطى على نهج سيد الكائنات القويم وسبيله السليم، أرضيتها من سنة طاهرة وسماؤها من آيات قرآنية محكمات،تشهد لفخرها ملء الأرض وما يعمر السماء، وما يبرز للنور وما يستره الغيب وتحجبه الظلمات.

علينا أن نقتبس كلنا من هذه الذكرى حفنة من أنوار السيرة الطاهرة، نعطر بها بيوتنا ونطهر بها نفوسنا من أمراضنا القاتلة المزمنة،وأن نستنشق منها كما علّمنا حبيبنا المصطفى عبير الهدي والرحمة والتعاطف والروابط الإنسانية المتينة.

علينا أن نتعلم من ذكرى مولد معلم البشرية ومحرر المرأة والإنسان ما يلي:وحدة الأخوة في الإنسانية كما سبق أن وحّد الرسائل السماوية، الحرص على العلم والتعلم، والاستكشاف والتعقل والتدبر، والتسامح والعطف والتساوي في الحقوق والواجبات، وطاعة الله وحب الناس.

علينا أن نقتدي بإتباع سنة سيد الخلق والاقتداء بهديه والرجوع إلى الله، والتوبة عن صحيفتنا السوداء المليئة بالمحرمات والذنوب والسيئات،وأن نتفادى ضيق الحزبية والمذهبية ،وننكر نعرات فتنة التفرقة الطائفية، وأن نتجه الى قبلة الوطنية الشاسعة حتى تحتضنا أياد الانتماء للوطن.

ونختم هذا المقال بمناسبة ذكرى ميلاد هذه النفحة االنبوية الشريفة، بالصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل بيته الميامين الأطهار، كما نهنئ جميع الشعوب المسلمة بهذه الذكرى الغالية. وصلى الله على خير البرية ومعلم البشرية الذي أنار الوجود بنور الاسلام صلاة وسلاما دائمين، ونحمد الله اننا خلقنا أحرار مسلمين.وخير ما نختم به هو قول الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا (47) وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (48) } .

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط