تمويه البياض في “شامة بيضاء” للشاعرة الفلسطينية إيمان زياد

ما يربو على السنة وديوان/ نثر “شامة بيضاء” – منذ أن سلمته لي صاحبته الفلسطينية إيمان زياد في آخر زيارة لها للمغرب – يرقد كل ليلة جانب رأسي أغفو واستيقظ على عيونه ترنو إلي تستفزني لسبر أغواره، استسمحه لانتظار دوره بين الكتب التي سبقته…

وما أن تجرأت على دق أبوابه حتى غصتُ في بحر تحكمه آليات التكثيف والحذف والاختزال والتمويه… ووجدتني أمام كتاب يفيض صورا شعريا ينوء بما يعتصر في الذات/ الوطن عبر 129 مشهدا تختزل واقعنا العصي على التصنيف، بعد إن اختلطت ألوانه فاستحالت بيضاء، بما للبياض من دلالات منفتحة على كل الدلالات من أقصى الفرح(فستان العروس ) إلى أقصى دلالات الحزن (الكفن) مرورا بحيادية البياض وسط حقل الألوان، وبياض العين يفقدها التمييز بين الألوان …

ويتيه القارئ بين أمواج نص نثري يسعى إلى تبييض كل شيء حتى السواد (الشامة)، لذلك طبيعي أن تشرع كل أبواب التأويل على مصراعيها،ولتسييج هذا البياض والوقوف على بعض مظاهره الشكلية والدلالية داخل باكورة إيمان زياد كان لابد من الاستعادنة بالإحصاء والسيميوطيقا، لتفكيك تجليات البياض عسى الوصول إلى ما تريد الكلمات إيصاله للمتلقي عند وسم الشامة بالبياض، مما يحيلها شيئا غير مرئي ما لم تكن بجسد أسود…فما هي تمظهرات البياض وما دلالاته في “شامة بيضاء”؟؟

في هذا المؤلف العصي على التصنيف ، والذي اختارت صاحبته أن تجنسه قسرا ضمن النثر في تمويه تجنيسي، تم نثر البياض ذات اليمين وذات الشمال ، لدرجة يصبح البياض تمويها ينفي كل الألوان ويحيل نقيضه السواد (الشامة) بياضا فتتوحد في البياض كل التناقضات،ويتسلل عبر شقوق الكلمات والجمل والعبارات بقصد أو بدونه ،ليغرق القارئ في يم من التمويه ويحتم عليه الوقوف عند دلالات هذا البياض الذي يفقد السواد كينونته ….

عند الرجوع للنص نجد أن كلمة شامة (بما هي بقعة صغيرة سوداء تظهر على الجلد) وردت في الكتاب ثلاث مرات بمواضيع مختلفة على الجسد هي الضلع/ الوجه/ الخاصرة ، فظهرت أول الأمر في ما بين ضلوع الذات تغازل ما بين الجوانح “شامة مشاغبة .. تراقص ضلعي، تجذرت فيه حتى خجل الليل من سمرتها .. شامتي العذبة، نهاري اللؤلؤي .. وبها أبدأ مطلعي”[1]، ومن بين الضلوع تقفز لوجه الآخر/ الحبيب [2]( وجهك أقفز إليه شامة بيضاء يراودها أمل اللجوء) لتضطر في الأخير إلى العودة إلى الذات ، لكن ليس إلى الضلع ، بل وقد اختارت الخاصرة موطنا جديدا لها (… عن شامة تنز قهوة تزار، إذا ما ثنت وجهك غمزة، ثم قفزت من وجهك إلى خاصرتي ..)[3]

هذه الشامة البيضاء التي انطلقت من قلبي (أنا) إلى وجهك (أنت) لترتد لخاصرتي (أنا) قد تعجز كتب التأويل والتفسير عن جمع كل دلالاتها، وتتعب كلَّ المشائين المسافاتُ التي قطعتها، إن انتقال البياض – في جسم يفترض فيه البياض – بين قلب أبيض، ووجه مكشوف وضاح، وخاصرة مسجية يشرع كل أبواب التأويل بدون هوادة …

النص نثرٌ نُثِرَ فيه البياض حتى كاد يكون السواد/الكتابة في الأوراق نشازا ، وتسلل البياض من الغلاف إلى ما بين الحروف ، والكلمات والأسطر المنثورة … فنثَرتْ الكاتبة عشر كلمات تطايرت حروفها منفصلة حرفا حرفا لا رابط بينها سوى البياض بين جوانحها، مثلما قفزت الشامة البيضاء من بين الضلوع لتنعكس على الوجه وترتد للخاصرة ، فكتب الكلمات مشتتة، مزروعة بإتقان ما بين الصفحة العاشرة من بداية الكتاب، إلى الصفحة العاشرة من نهايته ثلاث كلمات منها في الصفحات الثلاثة الأولى هي : خطأ (خـ ط أ)ص10 يديك(ي د ي ك) ص13، البلل( الب ل ل) 14،( والكلمات مدح بما يشبه الذم فلا عيب في الذات سوى الكرم = خطأ يديك البللُ) وثلاث أخرى في الصفحات الثلاث الأخيرة هي كثلج (ك ث ل ج) ص90 ، (ف شيئا) ص 92، الدقيق (ك ا ل د ق ي ق ) ص93 كلمات تلخص مآل الذات في هذا الواقع المأزوم إذ انتهت ( شيئا كالثلج كالدقيق) فيما واستوطنت الكلمات الأربعة الباقية وسط الكتاب وهي : فقط (ف ق ط) ص 38، ال يتأرجح(ص39) بهدوء (ب هـ د وء) ص39، شظية( شـ ظ ي ة) ص45 ، وهي كلمات تلخص تأرجح الذات بين بين الصورة الإيجابية والأخرى السالبة ( فقط شضية ال تتأرجح بهدوء)

هي الكلمات التي دلف إليها البياض تعطينا مدخلا قرائيا لما لم بح به زياد فتختزل كل ما قالته وما تريد أن تقوله (شامة بيضاء) ….

ويتدفق البياض شكلا فنيا آخر فيدحرج الذات عبر الأسطر مبعثِرا ترتيبها ، ومحدثا خللا فنيا في نظامها وشكلها الهندسي ، منزاحا عن الترتيب الأفقي والعمودي لباقي السطر، بطريقة تماشي الذات الهلامية المبعثرة بين الكلمات ، هكذا خُلخِل الترتيب في حوالي 24 زوجا من الأسطر، وفي 12 ثلاثي، اثنان منها تدرجت فيهما كلمة واحدة

والجدار

الجدار

الجدار [4]

وهي كلمة حبلى بالدلالات السياسية في بلد كفلسطين، والدلالات الوجدانية في نص ك(شامة بيضاء)…

أما المرة الثانية التي تدحرجت كلمتان تدحرجا نحو التلاشي بطريقة تحاكي دلالة الكلمتين من الخط البارز /الصوت القوي ، نحو الخفوت كتابة ودلالة فكان في هذه الحال:

دون صوت

صوت صوت

صوت صوت [5]

وفي المرة الوحيد التي لعب البياض في تدحرج أربعة أسطر على بياض الصفحة، فكان معنى الأسطر ملخصا لبؤرة المعاناة ، ونهاية النهايات باعتبار الموت خلاصا ورحمة تتمادى على الجسد في تساؤل مكرر ولنستمع ولتنر كيف يتوافق الشكل مع القصد:

أليس الموت رحمة

لماذا يتمادى

قائما

فوق هذا

الجسد ؟ [6]

والأكيد أننا إذا تتبعنا دلالة كل تدرج وتوظيف شكلي للبياض النصي لطال شرحه، وكما تسلل البياض إلى شكل الديوان فرسم دلالاته على الكلمات، الجمل و الأسطر… انبلج صبح البياض في ثنايا الدلالة مشوشا على القارئ معاني الصور بين الفرح والحزن : ففي وصف الشامة السوداء بالبياض إيحاء بعدم وجودها، وتعبير عن حيادية البياض وهو ما جعل دلالته في النص محايدا تتأرجح بين شحنات موجبة تقطر فرحا، وأملا، وتسامحا، وحبا … تصرخ بالذات أن (كوني قوية)[7] وبالآخر أن (اصمد قليلا)[8]… وأن الغد لا محالة مشرق والصبح لابد منبلج…

وبين شحنات سالبة حمقاء عصية على الفهم كواقعنا العربي تجعل (هذا البياض ضرب من الحماقة)[9]، شحنات توزع الموت والأكفان في عالم مخيف (العالم، فزاعة تخيف الطيّبين .. ) كل شيء فيه سالب و(الموت صفقتنا الرابحة)[10]. فتنشطر الذات بين صورتين متقابلتين :

صورة إيجابية بيضاء رسمت الذات تفاصيلها رمزا للعطاء، الجمال والتضحية ( كفي حديقة )[11] ، لا تعرف إلا الحب أينما حلت وارتحلت( يدرك الحب قلبي أينما رحل)[12]، وأنها بصبرها وعزيمتها قادرة على تبديد العتمة ( صدري فجر يمزق العتمة)، وعلى استعداد دائم للعطاء وإن تمزقت أشلاء، (أعلق على رماد أرجوحة أثدائي إن أصابك العطش)[13] ، فلا غرو أن تتمنى على طريقة تميم بن مقبل، والنمر بن ثولب ( لو أني حجر)[14]

مقابل هذه الصورة الإيجابية البيضاء يصادف القارئ صورة سوداء كالحة لذات لا تملك شيئا ( ما عندي غير قلبها الذي ظل يغني على أثر وجعي دون صوت)[15]، ولا هم لها سوى تعداد مآسيها (أحصي أوردتي النازفة)[16]، ومواجهة الصعاب والسير على الشوك (روحي تمشي على الشوك)[17] مخدرة الأحاسيس تعيش على أمل غد مشرق (أفيون يحمد روحي أشعلوني بالوحي المضيء)[18] بقلب نحيل (قلبي نحيل جدا)[19] منشطرة تنزف كآبة (أنا غيمة جريحة شطرني الرعد إلى نصفين وأغلب الظن أمطاري كئيبة)[20] (بالية ممزقة كتجربة منسية)[21]

وهو ما حولها مصدرا للأشواك والمشاكل تنغص حياة الآخرين (وقد غدوت صبارة حبلى بالشوك في رئتك)[22] لها ما يكفيها من الأحزان ( عندي من الحزن ما يكفيني)[23] بل اضحت ألهة الألم (أنا ربة الألم العميق)[24]

تماهي التناقض هذا هو ما يستفز حمية القارئ ، ويدفعه لاستكناه أغوار الصور الغريبة المسجية بالبيضاء، ويجعل الصفة (بيضاء) فيه أهم من الموصوف (شامة)، فإذا كانت الأوصاف في العادة مجرد مؤشرات وسمات لتحديد جانب من الموصوف، فإن صفة بيضاء هنا تنفي الموصوف وتناقضه بل تمحي وجوده ، ليصبح الموصوف( الشامة/ السواد) بعيدا كل البعد عن مقصدية الشاعرة ومبتغاها ، وتغدو الرسالة السرية والعلينة في البياض وكأننا بالشاعرة تريد ان تقول (إن كثرة الحزن من حولنا ستكون بيضاء إذا ما وضعناها داخل خلاط الفرح)[25] على حد تعبير الشاعر محمد خضير في تقديمه للديوان/ النثر ، وأن ما يجعل السواد بياضا لن يعسر عليه تبييض كل الألوان ، وما البياض إلا (خليط ما رسم قوس القزح في السحب)… هذا التمويه قادر على أن يجعل الذات (عصفور يهز القفص) وأن يخلصها من الخطر الذي يهددها دون مقاومة ويجعلها تنتظر (أن يموت الغول من أثر السعال)

بهذا البياض تكتب الشاعرة ذاتها عبر كلمات منتقاة بعناية مركزة، ما دامت الشامة في الغالب نقطة صغيرة سوداء مكثفة و مركزة، فعندما تغدو بيضاء تقدم حالة نقيض مترعة بالبياض فلا غرو إن وصفت ب(شامة متمردة)، تمرد يلغي الحدود بين المتناقضات فرغم بياض الشامة وجدنا الليل وهو رمز السواد يغار من سمرتها ( شامتي البيضاء ….خجل الليل من سمرتها شامتي العذبة)[26]

وحتى تبرز الذات هذه الحالة النقيض اختارت الليل وقتل لتقفز الشامة من ضلع الذات إلى وجه الأنت ( في سكون الليل يحتلني وجهك أقفز إليه شامة بيضاء )[27] شاهدة على تورطها.

الأكيد أن هناك رسائل غير معلنة تتغيى الشاعرة توصيلها للقارئ لها علاقة بالذات/ الوطن، وقد متحت من معجم وجداني عاطفي متعلق بالأحاسيس كالألم والحزن والفرح وما تم توضيحه في صورة الأنا بين بين البياض والسواد… ومعجم وطني طبيعي مرتبط بفلسطين يجمع بين عناصر الطبيعة الحية من الطيور والنبات:(الصنوبر، الكناري، الغراب، الفراشة ، العصفور ، الدوري …

أو عناصر جامدة مرتبطة بالأرض ، الصنوبر، القرنفل، التين، السرو، الأقحوان، التفاح، العنب، اللوز، الزيتون، الحنطة … أو بالسماء الريح، المطر، الغيم، الهواء، الليل، الندى…

إنها لآلئ الوطن وجواهره ولا يمكن تصور شعر فلسطيني دون القضية مهما كان موغلا في الذاتية، فمهما حاول الشاعر الفلسطيني التوغل في ذاته، فإننا لا نسمح له بالاختلاء لنفسه ، ونحشر أنفسنا للبحث عن القضية في جيوب جوانحه لنسوق كل كتاباته ولو قسرا تجاه القضية ، لذلك لن يبدو غريبا إذا ما بحثنا لكل صورة شعرية عن دلالة لها علاقة بالوطن، ومقاومة الاحتلال خاصة والشاعرة تعبد لنا الطريق نحو هذا المنحى بصور صريحة؛ تشبه فيها نفسها بعصفور داخل قفص ، مع استحضار روح الشهداء والدعوة للمقاومة ( صبوا البنادق في فم الغول )[28] في بلد مستقبله على كف عفريت ( وطني يجرفه السيل فتاتا في واد مجهول)[29]

كل هذا التماهي والتناقض ، هذا الاختزال والتكثيف في نقطة سواء معولة في مكان محدد على جسد ، وهذا التمطيط إلى ما وراء حدود الوطن سببه البياض القادر على لي أعناق كل المتناقضات إنه توهيم وتمويه البياض في شامة بيضاء ….

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط